الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{والخامسة} بالنصب عطفًا على {أَرْبَعُ شهادات} [النور: 8] وقوله تعالى: {أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إِن كَانَ} أي الزوج {مِنَ الصادقين} فيما رماها به من الزنا بتقدير حرف الجر أي بأن غضب الخ، وجوز أن تكون {إن} وما بعدها بدلًا من {الخامسة} وتخصيص الغضب بجانب المرأة للتغليظ عليها لما أنها مادة الفجور ولأن النساء كثيرًا ما يستعملن اللعن فربما يتجرين على التفوه به لسقوط وقعه عن قلوبهن بخلاف غضبه جل جلاله.وقرأ طلحة والسلمي والحسن والأعمش وخالد بن أياس بنصب {الخامسة} في الموضعين وقد علمت وجه النصب في الثاني، وأما وجه النصب في الأول فهو عطف {الخامسة} على {أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات} [النور: 4] على قراءة من نصب {أَرْبَعُ} وجعلها مفعولًا لفعل محذوف يدل عليه المعنى على قراءة من رفع {أَرْبَعُ} أي ويشهد الخامسة، والكلام في {أَن لَّعْنَةُ} الخ كما سمعت في {أَنَّ غَضَبَ} الخ.وقرأ نافع {أَن لَّعْنَةُ} بتخفيف {إن} ورفع {لَّعْنَةُ} و{أَنَّ غَضَبَ} بتخفيف أن وغضب فعل ماض والجلالة بعد مرفوعة، و{إن} في الموضعين مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، ولم يؤت بأحد الفواصل من قد والسين ولا بينها وبين الفعل في الموضع الثاني لكون الفعل في معنى الدعاء فما هناك نظير قوله تعالى: {أَن بُورِكَ مَن النار} [النمل: 8] فلا غرابة في هذه القراءة خلافًا لما يوهمه كلام ابن عطية.وقرأ الحسن وأبو رجاء، وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون والأعرج ويعقوب بخلاف عنهما {أَن لَّعْنَةُ} كقراءة نافع و{أَنَّ غَضَبَ} بتخفيف {إن} و{غَضَبَ} مصدر مرفوع، هذا وظاهر قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ أزواجهم} [النور: 6] العموم والمذكور في كتب الأصحاب أنه يشترط في القاذف وزوجته التي قذفها أن يكون لهما أهلية أداء الشهادة على المسلم فلا يجري اللعان بين الكافرين والمملوكين ولا إذا كان أحدهما مملوكًا أو صبيًا أو مجنونًا أو محدودًا في قذف، ويشترط في الزوجة كونها مع ذلك عفيفة عن الزنا وتهمته بأن لم توطأ حرامًا لعينه ولو مرة بشبهة أو بنكاح فاسد ولم يكن لها ولد بلا أب معروف في بلد القذف، واشتراط هذا لأن اللعان قائم مقام حد القذف في حق الزوج كما يشير إليه ما قدمناه من الخبر لكن بالنسبة إلى كل زوجة على حدة لا مطلقًا ألا ترى أنه لو قذف بكلمة أو كلمات أربع زوجات له بالزنا لا يجزيه لعان واحد لهن بل لابد أن يلاعن كلًا منهن، ولو قذف أربع أجنبيات كذلك حد حدًا واحدًا بهن، فمتى لم تكن الزوجة ممن يحد قاذفها كما إذا لم تكن عفيفة لم يتحقق في قذفها ما يوجب الحد ليقام اللعان مقامه، وأما اشتراط كونهما ممن له أهلية أداء الشهادة فلأن اللعان شهادات مؤكدات بالأيمان عندنا خلافًا للشافعي فإنه عنده أيمان مؤكدة وهو الظاهر من قول مالك وأحمد فيقع ممن كان أهلًا لليمين وهو ممن يملك الطلاق فكل من يملكه فهو أهل للعان عنده فيكون من كل زوج عاقل وإن كان كافرًا أو عبدًا.واستدل على أن اللعان أيمان مؤكدة بقوله سبحانه: {فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات بالله} [النور: 6] وذلك أن قوله تعالى: {بالله} محكم في اليمين والشهادة محتملة لليمين ألا يرى أنه لو قال: أشهد ينوي به اليمين كان يمينًا فيحمل المحتمل على المحكم لأن حمله على حقيقته متعذر لأن المعهود في الشرع عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه بخلاف يمينه، وكذا المعهود شرعًا عدم تكرر الشهادة في موضع بخلاف اليمين فإن تكرره معهود في القسامة، ولأن الشهادة محلها الإثبات واليمين للنفي فلا يتصور تعلق حقيقتهما بأمر واحد فوجب العمل بحقيقة أحدهما ومجاز الآخر فليكن المجاز لفظ الشهادة لما سمعت من الموجبين.واستدل أصحابنا على أنه شهادات مؤكدة بأيمان بالآية أيضًا لأن الحمل على الحقيقة يجب عند الإمكان وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} [النور: 6] أثبت أنهم شهداء لأن الاستثناء من النفي إثبات وجعل الشهداء مجازًا عن الحالفين يصير المعنى ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم وهو غير مستقيم لأنه يفيد أنه إذا لم يكن للذين يرمون أزواجهم من يحلف لهم يحلفون لأنفسهم وهذا فرع تصور حلف الإنسان لغيره ولا وجود له أصلًا فلو كان معنى اليمين حقيقيًا للفظ الشهادة كان هذا صارفًا عنه إلى مجازه كيف وهو مجازي لها ولو لم يكن هذا كان إمكان العمل بالحقيقة موجبًا لعدم الحمل على اليمين فكيف وهذا صارف عن المجاز وما توهم كونه صارفًا مما ذكر غير لازم قوله قبول الشهادة لنفسه وتكرر الأداء لا عهد بهما قلنا: وكل من الحلف لغيره والحلف لإيجاب الحكم لا عهد به بل اليمين لرفع الحكم فإن جاز شرعية هذين الأمرين في محل بعينه ابتداء جاز أيضًا شرعية ذلك ابتداءً بل هي أقرب لعقلية كون التعدد في ذلك أربعًا بدلًا عما عجز عنه من إقامة شهود الزنا وهم أربع وعدم قبول الشهادة له عند التهمة ولذا تثبت عند عدمها أعظم ثبوت قال الله عز وجل: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] فغير بعيد أن تشرع عند ضعفها بواسطة تأكيدها باليمين وإلزام اللعنة والغضب إن كان كاذبًا مع عدم ترتب موجبها في حق كل من الشاهدين إذ موجب شهادة كل إقامة الحد على الآخر وليس ذلك بثابت هنا بل الثابت عند الشهادتين هو الثابت بالأيمان وهو اندفاع موجب دعوى كل عن الآخر، وإنما قيل عندهما ولم يقل بهما لأن هذا الاندفاع ليس موجب الشهادتين بل هو موجب تعارضهما، وأما قوله: واليمين للنفي الخ فمحله ما إذا وقعت في إنكار دعوى مدع وإلا فقد يحلف على إخبار بأمر نفي أو إثبات وهنا كذلك فإنها على صدقه في الشهادة، والحق أنها على ما وقعت الشهادة به وهو كونه من الصادقين فيما رماها به كما إذا جمع أيمانًا على أمر واحد يخبر به فإن هذا هو حقيقة كونها مؤكدة للشهادة إذ لو اختلف متعلقهما لم يكن أحدهما مؤكدًا للآخر.وأورد على اشتراط الأهلية لأداء الشهادة أنهم قالوا: إن اللعان يجري بين الأعميين والفاسقين مع أنه لا أهلية لهما لذلك.ودفع بأنهما من أهل الأداء إلا أنه لا يقبل للفسق ولعدم تمييز الأعمى بين المشهود له وعليه وهنا هو قادر على أن يفصل بين نفسه وزوجته فيكون أهلًا لهذه الشهادة دون غيرها، وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة أن الأعمى لا يلاعن وعمم القهستاني الأهلية فقال: ولو بحكم القاضي والفاسق يصح القضاء بشهادته وكذا الأعمى على القول بصحتها فيما يثبت بالتسامع كالموت والنكاح والنسب وهذا بخلاف المحدود بالقذف فإنه لا يصح القضاء بشهادته، ولعل مراد ابن كمال باشا بقوله: لو قضى بشهادة المحدود بالقذف نفذ نفاذ الحكم بصحتها ممن يراها كشافعي على ما قيل وهو خلاف ظاهر كلامه كما لا يخفى على من رجع إليه، ويشترط كون القذف في دار الإسلام وكونه بصريح الزنا فلا لعان بالقذف باللواط عند الإمام وعندهما فيه لعان ولا لعان بالقذف كناية وتعريضًا والقذف بصريحه نحو أن يقال: أنت زانية أو يا زانية أو رأيتك تزنين، والمشهور عن مالك أن القذف بالأولين يوجب الحد والذي يوجب اللعان القذف بالأخير وهو قول الليث وعثمان ويحيى بن سعيد، وضعيف بأن الكل رمى بالزنا وهو السبب كما تدل عليه الآية فلا فرق، وبمنزلة القذف بالصريح نفى نسب ولدها منه أو من غيره.وفي المحيط والمبتغى إذا نفى الولد فقال: ليس هذا بابني ولم يقذفها بالزنا لا لعان بينهما لأن النفي ليس بقذف لها بالزنا يقينًا لاحتمال أن يكون الولد من غيره بوطء شبهة وهو احتمال ساقط لا يلتفت إليه كما حققه زين في البحر، ويشترط في وجوب اللعان طلب الزوجة في مجلس القاضي كما في البدائع إذا كان القذف بصريح الزنا لأن اللعان حقها فإنه لدفع العار عنها وبذلك قالت الأئمة الثلاث أيضًا، وإذا كان القذف بنفي الولد فيشترط طلب القاذف لأنه حقه أيضًا لاحتياجه إلى نفي من ليس ولده عنه ويجب عليه هذا النفي إذا تيقن أن الولد ليس منه لما في السكوت أو الإقرار من استلحاق نسب من ليس منه وهو حرام كنفي نسب من هو منه، فقد روى أبو داود والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام قال حين نزلت آية الملاعنة: «أيما امرأة دخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله تعالى في شيء ولن يدخلها الله تعالى جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عز وجل عنه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين» وإن احتمل أن يكون الولد منه فلا يجب بل قد يباح وقد يكون خلاف الأولى بحسب قوة الاحتمال وضعفه، وقد يضعف الاحتمال إلى حد لا يباح معه النفي كأن أتت امرأته المعروفة بالعفاف بولد لا يشبهه فعن أبي هريرة أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن امرأتي ولدت غلامًا أسود فقال: «هل لك من إبل؟ قال: نعم قال ما ألوانها؟ قال: حمر قال: فهل فيها أورق؟ قال: نعم قال: فكيف ذلك؟ قال: نزعه عرق قال: فلعل هذا نزعه عرق» وذكروا فيما إذا كانت متهمة برجل فأتت بولد يشبهه وجهين إباحة النفي وعدمها، وأما القذف بصريح الزنا فمع التحقق يباح ويجوز أن يستر عليها ويمسكها لظاهر ما روي من أن رجلًا قال: يا رسول الله إن امرأتي لا ترد يد لامس قال: «طلقها قال: إني أحبها قال: فأمسكها» وفيه احتمال آخر ذكره شراح الحديث ومع عدم التحقق لا يباح ذلك، والأفضل للزوجة أن لا تطالب باللعان وتستر الأمر وللحاكم أن يأمرها وإذا طلبت وقد أقر الزوج بقذفها أو ثبت بالبينة وهي رجلان لا رجل وامرأتان إذ لا شهادة للنساء في الحدود، وما في النهر والدر المنتقى من جواز ذلك سبق قلم لاعن إن كان مصرًا وعجز عن البينة على زناها أو على إقرارها به أو على تصديقها له أو أقام البينة على ذلك ثم عمى الشاهدان أو فسقا أو ارتدا وهذا بخلاف ما إذا ماتا أو غابا بعد ما عدلا فإنه حينئذٍ لا يقضي باللعان فإن امتنع حبسه الحاكم حتى تبين منه بطلاق أو غيره أو يلاعن أو يكذب نفسه فيحد، وعند الشافعي أن امتنع حد حد القذف وكان إذا لاعن فامتنعت تحد عنده حد الزنا وعندنا تحبس حتى تلاعن أو تصدقه فيرتفع سبب وجوب لعانهما وهو التكاذب على ما قيل، والأوجه كون السبب القذف والتكاذب شرطه، وكما لا لعان مع التصديق إذا كان بلفظ صدقت لا حد عليها ولو أعادت ذلك أربع مرات في مجالس متفرقة لأن التصديق المذكور ليس بإقرار قصدًا وبالذات فلا يعتبر في وجوب الحد بل في درئه فيندفع به اللعان ولا يجب به الحد وكذا يندفع بذلك كما في كافي الحاكم الحد عن قاذفها بعد ولو صدقته في نفي الولد فلا حد ولا لعان أيضًا وهو ولدهما لأن النسب إنما ينقطع بحكم اللعان ولم يوجد وهو حق الولد فلا يصدقان في إبطاله وما في شرحي الوقاية والنقاية من أنها إذا صدقته ينتفي غير صحيح كما نبه عليه في شرح الدرر والغرر.ووجه قول الشافعي بالحد عند الامتناع أن الواجب بالقذف مطلقًا الحد لعموم قوله سبحانه: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4] الخ إلا أنه يتمكن من دفعه فيما إذا كانت المقذوفة زوجة باللعان تخفيفًا عليه فإذا لم يدفعه به يحد وكذا المرأة تلاعن بعدما أوجب الزوج عليها اللعان بلعانه فإذا امتنعت حدت للزنا ويشير إليه قوله سبحانه وتعالى: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب} [النور: 8] ووجه قولنا إن قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ أزواجهم} [النور: 6] إلى قوله تعالى: {فشهادة أَحَدِهِمْ} الخ يفهم منه كيفما كانت القراءة أن الواجب في قذف الزوجات اللعان ولا ينكر ذلك إلا مكابر فإما أن يكون ناسخًا أو مخصصًا لعموم ذلك العام والظاهر عندنا كونه ناسخًا لتراخي نزوله كما تشهد له الأخبار الصحيحة والمخصص لا يكون متراخي النزول وعلى التقديرين يلزم كون الحكم الثابت في قذف الزوجات إنما هو ما تضمنته الآية من اللعان حال قيام الزوجية كما هو الظاهر فلا يجب غيره عند الامتناع عن إيفائه بل يحبس لإيفائه كما في كل حق امتنع من هو عليه عن إيفائه ولم يتعين كون المراد من العذاب في الآية الحد لجواز كونه الحبس وإذا قام الدليل على أن اللعان هو الواجب وجب حمله عليه.قيل: والعجب من الشافعي عليه الرحمة لا يقبل شهادة الزوج عليها بالزنا مع ثلاثة عدول ثم يوجب الحد عليها بقوله وحده وإن كان عبدًا فاسقًا، وأعجب منه أن اللعان يمين عنده وهو لا يصلح لإيجاب المال ولا لإسقاطه بعد الوجوب وأسقط به كل من الرجل والمرأة الحد عن نفسه وأوجب به الرجم الذي هو أغلظ الحدود على المرأة، فإن قال: إنما يوجب عليها لنكولها بامتناعها عن اللعان قلنا: هو أيضًا من ذلك العجب فإن كون النكول إقرارًا فيه شبهة والحد مما يندفع بها مع أنه غاية ما يكون بمنزلة إقراره مرة، ثم إن هذه الشبهة أثرت عنده في منع إيجاب المال مع أنه يثبت مع الشبهة فكيف يوجب الرجم به وهو أغلظ الحدود وأصعبها إثباتًا وأكثرها شروطًا انتهى، وليراجع في ذلك كتب الشافعية.وفي النهر نقلًا عن الاسبيجابي أنهما يحبسان إذا امتنعا عن اللعان بعد الثبوت، ثم قال: وينبغي حمله على ماذا لم تعف المرأة كما في البحر، وعندي في حبسها بعد امتناعه ننوع إشكال لأن اللعان لا يجب عليها إلا بعد لعانه فقبله ليس امتناعًا لحق وجب عليها انتهى.
|